الصحافـة السعودية وحرية التعبير
- ht50370
- 4 نوفمبر 2019
- 6 دقيقة قراءة
عبدالعزيز بن سلمة
منذ عقد من الزمن - أو قبل حرب الخليج الثانية ببضع سنوات على ما أعتقد - كتب رئيس تحرير هذه الصحيفة في زاويته المعروفة عن زيارة رؤساء تحرير الصحف الكويتية للمملكة، وروى بعض ما دار بينهم وبين زملائهم السعوديين من حوارات حول قضايا تتعلق بالممارسة الصحفية في العالم العربي وفي دول الخليج بالذات. وذكر سعادته ان الصحفيين الكويتيين - بعد لقاءات أتيح لهم خلالها الحديث مع قادة البلاد وكبار المسؤولين فيها... - أعربوا عن دهشتهم من عدم استفادة الصحافة السعودية من هامش تعبير كبير متاح لها.
وروى رئيس تحرير سابق يشغل حالياً مسؤولية كبيرة في مؤسسة صحفية ناشئة انه يعرف خمسة وزراء كانوا من أشد المطالبين بتمتع الصحافة بحرية تعبير أكبر مما كان متاحاً لها في فترة من الفترات. وعندما أصبح هؤلاء وزراء قبل عدة سنوات، أضحوا على النقيض من ذلك الحماس لحرية التعبير، وأصبحوا من بين من يبالغون في نقد الصحافة والتبرم مما كان ينشر فيها من مقالات، ومن بين الداعين إلى تقليص ما كان متاحاً لها من هامش حرية التعبير. وكان ذلك الصحفي - سابقاً - يروي تلك المفارقة وسط جمع من رؤساء تحرير لصحف سعودية، أثناء زيارتهم لعاصمة غربية، ضمن وفد رسمي مرافق لأحد كبار المسؤولين في المملكة. وفي أثناء ذلك اللقاء الأخوي، تبارى رؤساء تحرير الصحف المتحلقون حول مائدة عشاء في رواية قصص ونوادر حول مفارقات شبيهة بتلك التي رواها زميلهم.. السابق.
وبين زمن تلك الخاطرة التي عبر عنها رئيس تحرير صحيفة سعودية فاعلة والفترة الحالية التي تعيشها الصحافة السعودية حدث تحول هائل، تحول يسر كل مخلص ومتطلع لوجود صحافة فاعلة تليق ببلاد مثل المملكة. قد يرى البعض في الداخل وفي الخارج أن هذه الصحافة قد أصبحت تمتلك أنياباً جارحة تدمي من يجرؤ على التهاون في القيام بمسؤولياته على أكمل وجه. وقد لا يُسر البعض بما ينشر فيها من مقالات جريئة في الحق وفي الرغبة في الاصلاح، أو في الدفاع عن كرامة هذا الوطن ضد ما يثار حوله من أكاذيب ورسائل إعلامية متحاملة، ولكن النتيجة واحدة. هنالك حالة من الرضا العام والفخر بالمستوى الذي وصلت اليه الصحافة السعودية بوجه عام. وهو مستوى - والحق يقال - تتفاوت فيه الصحف المحلية: بعضها قيادي يؤدي رسالته بمستوى عال من الوعي، وبشجاعة واخلاص وتفان، ليكون بذلك حرياً بأمانة الكلمة وعلى مستوى تطلعات المسؤولين والمواطنين، وبعضها الآخر يجاري تلك الصحف، لكي لا يتولد لدى القراء أنها صحف متخلفة عن الركب.
إن احترامنا وتقديرنا للحرية المسؤولة للصحافة هو جانب من جوانب احترامنا لذاتنا، ووعي متقدم بأننا من بلاد وأمة كريمة تنشد الموقع الأفضل والمكانة الأسمى بين أمم العالم. وللكلمة الصادقة المتجردة المدفوعة بالغيرة على العقيدة وعلى مصالح الوطن والمجتمع تأثير كبير، بل وهائل أحياناً. وتسهم الصحافة في تأثيرها - كما تدل التجربة - بما قد لا تسهم به أجهزة أو لجان أو فرق عمل تعمل بشكل روتيني، وعلى غير هدى أحياناً. وطالما أن الكلمة مجردة عن الهوى وتجسد شعوراً حقيقياً عميقاً بالمسؤولية تجاه الآخرين، فإنها تنفذ إلى القلوب وإلى العقول. ويتضاعف تأثير هذه الكلمة إذا صدرت عن أناس حباهم الله في آن واحد بقدرة بلاغية قوية غير متكلفة ووعي كبير شكله الخوف من الله فيما يُقال ويُكتب، وسعة الاطلاع وكثافة التجربة الاجتماعية الحية.
وفي سياق الحديث عن هامش حرية التعبير، أذكر في زيارة للشيخ حسن عبدالحي قزاز - رحمه الله - قبل ما يزيد على عشر سنوات، حينما مررت عليه في مكتب إدارة مصنع الطوب الذي كان يملكه ويديره في مدينة جدة، أنني سألته: يا أبا عبدالوهاب، هل كانت مقالاتكم وكتاباتكم تؤثر، أم أنكم كنتم تريدون من ورائها ملء صفحات تلك الجرائد والمجلات القليلة والمتواضعة التي كنت أنت وأقرانك في المملكة تصدرونها قبل ثلاثين عاماً؟ انتفض رحمه الله، وقال بلهجة مؤثرة من شيخ صهرته الصحافة حتى ذاب فيها كل شبابه: نعم يا أخي، لقد أسهمت الصحافة وأسهم الكتاب في تغيير الكثير من جوانب واقع بلادنا، وكان المسؤولون يتفاعلون دائماً مع ما كنا نكتبه، ومع مرور الزمن أشعر بأنه كان أمامنا مجال أكبر للعمل. ثم ذكر قزاز أمثلة لم يسعني الوقت لكتابتها - من كثرتها - لمقالات أحدثت تغييرات كبيرة في حياة الناس وفي طبيعة عمل العديد من المؤسسات، وليس فقط في الاطاحة بوزير أو بوزيرين، مثلما حدث في عام 1377هـ .
وأهم ما قاله لي قزاز في تلك المقابلة، التي امتزج فيها الجد بروحه المرحة، هو أن الكاتب ما لم يكن متجرداً وصادقاً وبعيداً عن الهوى، فإن كلماته لن تنفذ إلى قلوب الناس، مسؤولين ومواطنين. قد تسعفه في البروز لفترة من الزمن، وقد تجعل القراء يتحدثون عنه حينا من الدهر، ولكنها كالزبد، ستذهب هباء وكأن لم تكن. وهذا ما هو حاصل في كل حالة ينطبق عليها قول قزاز وغيره ممن جايلوه ونعرفهم جميعاً، وهي حقيقة أستلهموها من كتاب الله الكريم. وكدليل على ما قاله، قدم لي رحمه الله ملفاً يحتوي على عشرات المقالات له ولكتاب آخرين، وملفاً آخر يتضمن خطابات وردوداً من المسؤولين في الدولة بمختلف درجاتهم، تدل على اهتمامهم الشديد بكل ما ينشر، إلى جانب قصاصات صحف نشر فيها ما أتخذ من اجراءات وما صدر من قرارات من الدولة وأجهزتها المختلفة، على ضوء ما نشر في تلك المقالات.
وحتى الذين يبدو لهم من آن إلى آخر أن أسلوب الطرح الذي عفا عليه الزمن والمتمثل في استخدام ما يسميه الفرنسيون باللغة الخشبية في تناول طريقة تعامل وتفاعل الدولة مع المواطنين هو الأسلوب الأنسب، حتى هؤلاء يتصدى لهم - كلما دعت الحاجة - مسؤولون يرشدونهم إلى الصواب، ويدلونهم على الأسلوب الأنسب الذي يحقق في آن واحد الحفاظ على علو مكانة الدولة وعلى كرامة المواطن. وأقرب مثال على ذلك المقال الذي نشرته صحيفة عكاظ في العام الماضي لسمو أمير منطقة مكة المكرمة الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز، والذي أبدى فيه تأييده القوي لمواطن عبر عن استغرابه من أسلوب طرح كتاب في الصحيفة لمواضيع تخص ما تقدمه الدولة للمواطنين، ووصفهم لما تقدمه الدولة بالمكرمة. وعبر سموه في ذلك المقال عن وجهة نظره كمسؤول تجاه أسلوب تعامل الصحافة مع العلاقة بين الدولة والمواطنين، مشدداً على أن هدفها هو خدمة المواطن وتلبية احتياجاته، وتمكينه من القيام بدور فاعل لخدمة دينه وبلاده ومجتمعه، وناصحاً بأن يربأ كل كاتب وصحفي بنفسه عن التزلف والهوى، وتسخير قلمه لأغراض لا تخدم الصالح العام.
هذه الحالة المشرفة التي وصلت اليها الصحافة السعودية قوة لنا، ودليل على الثقة العالية في النفس، وعلى تعمق القناعة بدور الإعلام في تقوية الذات. وهي ثقة مسؤولة وغير متعالية أو فوقية. انها حالة مشرفة، عوضت عن مستوى الإعلام المرئي الذي رفع الراية البيضاء منذ سنوات، وأقر للإعلام المرئي في الخارج - الخارج العربي - بالقيادة.
وإذا كان البعض يرى أن في هذا النهج، الذي تتبناه الصحافة السعودية عموماً بحس عال من المسؤولية والامانة، ما يهدد مصالحه الحقيقية أو المتخيلة، وإذا كان هؤلاء وآخرون من أمثالهم يعتبرون أنفسهم أوصياء على الناس، وأدى ذلك - لا قدر الله - إلى انتكاسة لا يرجوها مخلص لهذه البلاد، فلا يحق لهم أن يستغربوا إذا ما انصرف القراء بنسب متنامية إلى شبكة الإنترنت وإلى القنوات الفضائية والبريد الالكتروني، بشكل أكبر مما هو حاصل حالياً، وتجاهلوا الصحافة المحلية. ولا يحق لهم أن يسألوا في مرحلة لاحقة: أين الصحافة السعودية عن قضايا المجتمع وهمومه واحتياجاته؟ ولا يحق لهم القاء اللوم على الصحافة واتهامها بالتقصير في حق البلاد وأبنائها. العمل الصحفي محفوف بالمخاطر، وآخرها تنامي الرغبة التعتيمية والرغبة في القمع الرقابي من القطب الأوحد في العالم. وحتى الجهات التي لها وظيفة رقابية مشروعة، لا يحق لها - إذا ما تم تفويت فرصة ترشيد حرية التعبير التي تتمتع بها صحافتنا حالياً والاستمرار في تقويتها والاستفادة منها ان تستغرب عندما تصبح صحافتنا- لا قدر الله - شبيهة بالصحافة الحزبية المثيرة للشفقة أو للسخرية - أو لهما معاً - في دول أخرى.
ليدرك الجميع أن قوة البلاد تكمن أيضاً في وجود صحافة تتمتع بحرية مسؤولة وواعية وملتزمة، وأن قوة الصحافة لا تكمن في نوعية الورق واستخدام أحدث تقنيات الطباعة وفرز الألوان.
وقفة:
قبل مدة كتبت إحدى المثقفات مقالاً أثار استياء أوساط صهيونية تتصيد ما يمكن أن يعكس التيار لصالح إسرائيل. وأنا لست هنا في موقع الدفاع عن تلك الكاتبة، وإن كان يشرفني ذلك. ولكن - وأعتقد أن لي مطلق الحرية في التعبير عما أشعر به - لا أجد بدا من ابداء استيائي من هذه الزوبعة المصطنعة التي يتجاهل من يثيرونها ما يكتبونه هم بأقلامهم وما ينتجونه بأموالهم ضد شعوب أخرى، من مقالات وأفلام تنضح بالعنصرية والتحامل والتشويه البغيض للأمم الأخرى. فهذا حاخام يصف العرب بالنجسين والفلسطينيين بالفئران والأفاعي، وذلك كاتب يحرض في مقالات مفعمة بالهلوسة على تدمير مكة المكرمة. ورغم كل هذا تجرؤ تلك الأوساط على اتهامنا بما تمارسه هي، ويتناسون أننا أتباع عقيدة تحض على احترام معتقدات أتباع الأديان السماوية، وتنهى عن الظلم والعدوان، حتى بالكلمة. وبالنسبة لي كمسلم، لا أرى في اليهودي أو المسيحي إلا مثيلاً لي في الخلق، في الانسانية، ولا يضيرني الاقرار له بحق الاحترام وبحقه في المعاملة الكريمة، طالما انه يقر لي بذلك
ولكن ما العمل تجاه هذه الزوابع التي لا أشك أنها تندرج في إطار حرب نفسية تمارسها أوساط صهيونية أو متصهينة تجاه كل من يقف تجاه مطامعها الشريرة في العالم؟. وما العمل تجاه موقف أحفاد من أبادوا ملايين الهنود الحمر واستعبدوا ملايين الأفارقة وكادوا أن يبيدوهم أيضاً، ما العمل تجاههم وهم يؤيدون ويشجعون حكومة وجيشا مجرماً يسعى - في المقام الأخير - إلى استكمال اقتلاع شعب من أرضه، وربما إلى ابادته؟.
كنت منذ زمن قد طرحت على بعض الاخوان فكرة انشاء مرصد Observatory يتم من خلاله توثيق كل ما يصدر من كتب ومقالات وأفلام سينمائية وكرتونية ومسلسلات تلفزيونية... يتعمد فيها اهانة العرب والمسلمين وتشويه سمعتهم، وهي اكثر مما قد يتصوره البعض. والفكرة تكمن في أن يتم اصدار كتيب أو نشرة سنوية أو في كل سنتين باللغتين الانجليزية والفرنسية - على الأقل - لتوزع على كل وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والبحثية ومراكز الدراسات في العالم... والهدف من ذلك هو أن يرى العالم، وخصوصاً الذين يتهموننا بما يمارسونه هم ضدنا، أننا أول ضحايا التعصب والعنصرية والتحامل. ولو كانت مؤسساتنا الإعلامية الرسمية وحتى الجامعة العربية على مستوى متقدم من الوعي، لقامت بإنشاء مثل هذا المرصد التوثيقي منذ عقود من الزمن. وما على من تسول له نفسه اتهامنا باللاسامية أو بالتحامل والحث على الكراهية... إلا أن نقذف في وجهه بما يوضح له أن مناحيم غولان وغيره من صهاينة السينما العالمية، وأمثالهم من الساسة والكتاب والصحفيين والفنانين ومنتجي المواد الثقافية هم الأولى بهذه التهمة البغيضة.

Comments